البحر يحاول أن يغمض عينيه لينام.. صاح الرجل: "لا يمكن.. البحر لا ينام.." قالت زوجته باستغراب: "ما بك يا رجل لماذا تصرخ"؟؟ هزّ رأسه.. نظر في عينيها.. تراءت زرقة البحر.. تنهد.. كان يتمنى أن يستطيع ذات يوم احتواء كل الأطفال في قلبه ليحميهم من عواء الرصاص.. مرة حاول أن يسيج واحداً منهم بجسده، لكنّ الرصاصة التهمت طفلاً آخر.. عندها رفع رأسه وتشنج، ثم ركض عارياً حافياً ليضم البحر.. هناك استطاع أن يبكي.. أن يرسل ما يشاء من حكايات ودموع وآهات عذبت صدره طويلاً.. فكيف لهذا البحر أن يغمض عينيه وينام..؟؟
مدت الزوجة ظل أصابعها وضغطت على ركبته.. كأنما انطلقت شرارة يولدها احتكاك أسلاك الكهرباء... في بادئ الأمر أخذ يضحك بجنون.. ثم نفر وقفز إلى الخلف.. صاحت زوجته- ربما كان اسمها عائشة لا يهم- "ما بك ماذا جرى"؟؟
اعتذر وعاد إلى مكانه.. جلس قربها.. طوى ركبتيه وشدهما إلى بطنه.. قال "لماذا يريد البحر أن ينام"؟؟ حوقلت وبسملت ووضعت كفها على جبينه.. قال "لا تخافي حرارتي على حالها.. لكن هو البحر" قالت: "البحر هو البحر يا أبا المعتصم.. كيف له أن يتغير.."؟؟ عرف أنها لن تفهمه.. قال "أجل.. البحر هو البحر.." هزّت رأسها مطمئنة.. وهزّ رأسه مسكوناً بكل الأحزان التي ركبته..
عند الصباح كان الأولاد يركضون.. وابنه المعتصم يملأ شوارع المخيم حيوية واندفاعاً.. تذكر كيف حكى له عن "المعتصم" الكبير.. وكيف أخذ الطفل يملأ البيت بضحكات الفرح.. كان يصر على أنه مثل المعتصم الذي ذهب، وأنه سيكون رائعاً كما كان.. يومها ضمه الأب إلى صدره، وترك المجال لدمعتين ساخنتين فانهمرتا على شعر الصبي.. صياح الأولاد شدّه إلى الشباك.. كانوا يحملون الحجارة ويرسلونها قذائف في وجه الاحتلال.. كان ابنه المعتصم أكثرهم قدرة على إصابة الهدف.. شوارع المخيم تشهد.. الأولاد يشهدون.. وهذا الجرح الذي في كتفه يشهد بعد أن عضته رصاصة وأكلت جزءاً من اللحم والعظم..
عندما نام الولد، قال: "هذا الولد لا يعرف الهدوء" ردت الزوجة: "كم أخاف عليه.. كتفه يؤلمه كلما حرك يده.. وهو يصر على رمي الحجارة" قال: "ليفعل ما يريد.. مضى على الجرح مدة طويلة" قالت: "أنت تشجعه دائماً.. الله يستره" ارتسمت على شفتيه ابتسامة.. نظر إلى البحر في عينيها.. كان يتمنى أن يمتصه الماء.. أن يغرق قدميه وصدره.. أن يرتمي على الشاطئ مسكوناً بأشعة الشمس.. أن يركض لاهثاً إلى هناك.. عندها كانت الدنيا سترقص كما لم ترقص من قبل.. ولا بدّ ساعتها، أن يفتح البحر عينيه على اتساعهما.. وكيف للبحر في مثل هذا الوقت أن ينام؟؟..
بدا العنوان على الصفحة الأولى واضحاً "غزة- أريحا" هزّ رأسه.. قالت الزوجة "ما بك يا أبا المعتصم" قال: "البحر يحاول أن يغمض عينيه وينام" حوقلت وبسملت من جديد.. صاح: "افهمي يا امرأة البحر يغرق" فتحت فمها ونظرت إليه لاهثة.. قالت: "يا مصيبتي.. جن الرجل.. كيف للبحر أن يغرق.. سلامة عقلك" قال: "نعم كيف؟؟ ولكنها الحقيقة" وضعت رأسها بين يديها وانفلتت من العينين كل ينابيع الدموع.. كانت واثقة أن الرجل جنّ.. خافت من غدر الأيام.. تخيلت كيف ستكون وحيدة تصارع مصاعب الحياة.. كيف ستؤمن اللقمة لها وللمعتصم.. ولا تدري لماذا رأت -أو هكذا تصورت- أن المعتصم يتسول في شوارع الدنيا.. يمد يده وينادي.. قامت إلى رجلها واحتوته بين ذراعيها.. صاحت "أرجوك لا تفعل هذا"؟؟ قال -وكأنه كان يرى ما ترى- "ليتني أستطيع يا امرأة.. ليتني أستطيع.. فالبحر يحاول أن يغمض عينيه لينام وعندها سيكون ما يكون.. أيقظي المعتصم يا امرأة.. أيقظيه.. لعله يستطيع أن يفعل أي شيء. عله يستطيع" وصرخت المرأة صرختها التي ملأت الزمان والمكان.. وكان البحر يغمض عينيه ويحاول أن ينام.
طلعت سقيرق